استيقظ زاهد فرأى أن السماء كانت متغيمة، فكان المنظر جاذبا جدا،لأن الناس في الصيف ينتظرون المطر كما تنتظر الأم إبنها بعد أن اغترب وابتعد عن الوطن،و يتلهفون بتغيم السماء كما يتلهف العاشق بصعود العشيقة على السقف،ويشتاقون إلى هبوب الهواء البليل كما كما يشتاق الحبيب إلى لقاء الحبيب،ففي هذا الموسم البهيج خرج الناس من بيوتهم، بعضهم للتمتع بالموسم الجذاب، وبعضهم للذهاب إلى أماكن التوظف،وزاهد أيضا خرج من بيته وذهب إلى محطة القطار
فأجابه شاب :يبدو كأنك مكروب ،ويتجلى في وجهك الحزن، ويظهر كأن بلية حلت بك،فاعتنقه زاهد،وبدأ لا يزال يبكي، وبينما كان يبكي حتى جاءت المحطة التي قصدا النزول فيها،فنزلا معا من القطار وجلسا على كرسي كبير في المحطة،ووضع الشاب على عنق زاهد يده وقال له،يا أخي لم تبكي؟ وما أصابك؟أذكرلي ما حل بك بفصه ونصه ؟لأن الحزن يتخفف عندما تذكره عند الناس وتجد سلوة فيه،وربما أكون أن أساعدك في إزالة هذه المصيبة لو استطعت.
فخفض زاهد رأسه وقال :المصيبة كبيرة جدا، وكل مصيبة بعد هذه المصيبة جلل، وكل حادثة بعد هذه الحادثة عادت لعبة يلعب بها الأطفال،وعادت دمية أسد يحركها الأطفال بيديه بدون أي خوف.
قال له الشاب :ما هذه المصيبة يا أخي؟
فبدأ زاهد يقول :قد فرق الزمان بيني وبين صديقتي بعد ما قضينا مدة من الزمن في الصداقة الخالصة،وهي كانت درة مصونة لا تساويها أي درة مكشوفة، وذالك لأنها كانت تسدل على وجهها الستار،فلأجل ذالك لم أر وجهها قط ،ولكني كنت أحبها كثيرا لأنها كانت نموذجا للإخلاص، ومثالا لا يحتذى في الوفاء،وأنا أعتقد أن الجمال هو جمال الخلق، والحسن في الأعمال دون البشرة، لأن جمال الخلق يدوم، والحسن في الأعمال يبقى ولا يفنى أبدا،وكذلك هي أحبتني كثيرا،بينما كان زاهد يستمر في الكلام إذا قطع الشاب كلامه وعبس في وجهه وضحك وبدأ يقول ناظرا إليه بنظر شزر:ليس هناك في الدنيا مجنون أكبر منك، لأن البكاء والتحسر في فراق الصديقة جنون لا غير، ومن أحمق الحمق إسالة الدموع عند مفارقة الصديقة،وأنت تبكي كأن عشيقة فارقتك،هل رأيت أحدا يبكي في فراق الصديق؟الصداقة شئ رخيص تجده أينما تحل وترحل، والصداقة شئ تافه، والصداقة شئ يستهان به عند كل ذوي الألباب، لأن الصداقة توهب كما يوهب الهواء من قبل الله،ولكن أنت أخي مجنون،و أظن كأنه خولط في عقلك،لأن البكاء في فراق صديقة يدل على جنونك، لأن صديقة إذا فارقتك ستكسب صديقة أخرى. ومازال زاهد يسمع محاضرته وهو يستمر في الحديث حتى إذا عيل صبره وصب جام تحمله رفع رأسه وقال،مهلا يا أخي، أنت أثرت عواطفي بعد ما كمنت،وأنت أشعلت مجمر ذكرياتي بعد ما انطفأ،أنا لا أبكي على فراق صديقة فقط،وأنا لا أسيل الدموع على مغادرة فتاة اصطحبت معها مدة من الزمن، بل أنا أبكي لأن الوفاء فارقني،وهي ليست صديقةفقط بل كانت وفية عندما تعد،وهي منعدمة النظير فيه ولا يأتي العصر الراهن بمثلها في الوفاء،ولا أبكي على مغادرة صديقة فقط بل أبكي على مفارقة مواسية تواسيني عندما ألمت بي بلية،وأنا لا أبكي على الابتعاد من صديقة بل أبكي على الابتعاد من مرشدة ترشدني عندما أكون على الضلال، وأنا لا أبكي على فراق صديقة عادية بل أبكي على فراق روح بشرية أجد بوجودها ثقة بنفسي عندما أفقد ثقتي بنفسي لأنها تشجعني في كل مرحلة من مراحل الحياة،وهي كانت ليست صديقة عادية،بل هي فوق ما تتصور ولا أستطيع أن أصفها،
وعندما رأى الشاب أنه لا يزال يتكلم ويتفلسف عليه تدخل بكلامه وقال :أيها الأخ ليس في وقتي وسع لأسمع فلسفتك ،هذا فراق بيني وبينك، أستودعك الله. فذهب الشاب وبقي زاهد جالسا على كرسي، وتدفقت قريحته وعادت إليه ذكرياته، فبدأ يغمغم ويقول مخاطبا صديقته في مخيلته :يا صديقتي ما فقدت بفقدك شيئا تافها بل فقدت شئيا لا يساويه أي شئ حتى الذهب، ومثل هذا الشئ لا يتكرر في الحياة،يجده الإنسان مرة واحدة في حياته فإذا فاته مرة فاته للأبد، ويا صديقتي ما فقدت بفقدك فتاة تحبني بل فقدت وفاء، وما فقدت بفقدك بشرا بل فقدت قلبا يحوي فيه الخير لي، وما فقدت بفقدك صداقة عميقة بل فقدت دعاء يلزمني ويظللني في كل وقت، وما فقدت بفقدك علاقة متينة قامت منذ سنوات بل فقدت قوة تشجعني عندما نجحت وتقدرني عندما يرافقني الحظ،وتملأني نشاطا عندما يخيم علي الكسل، ومافقدت بفقدك صديقة عادية بل فقدت صدفا لا يناله إلا من غاص في البحر ولكني وجدته على البر بفضل حسن حظي،ويالي من شقاوة؛ ويالي من تعاسة؛ويازمان لن أسامحك يوم القيامة لأنك فرقت بيني وبينها،وهذه شقاوة ليست شقاوة فوقها، وهذه تعاسة ليست لي تعاسة بعدها، ثم غلب عليه الحزن وبدأ يبكي في المحطة على مرأئ من الناس ومسمعهم،ولايزال يبكي…
*جامعة جواهر لال نهرو بنيو دهلي بالهند.